للعبد بين يدي الله موقفآن
للعبد بين يدي الله موقفان
موقف بين يديه في الصلاة
و
موقف بين يديه يوم لقائه
فمن قام بحق الموقف الأول هوّن عليه الموقف الآخر
ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفّه حقّه شدّد عليه ذلك الموقف
قال تعالى: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ) سورة الإنسان.
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر و نهي
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر
وله عليه فيه نهي
وله فيه نعمة
وله به منفعة و لذة
فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه
فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه
وسعى في تكميل انتفاعه و لذته به
وإن عطّل أمر الله و نهيه فيه
عطّله الله من انتفاعه بذلك العضو
وجعله من أكبر أسباب ألمه و مضرّته.
وله عليه في كل وقت من أوقاته عبوديّة تقدمه إليه و تقرّبه منه,
فإن شغل وقته بعبودية الوقت , تقدم إلى ربه ,
وإن شغله بهوى أو راحة و بطالة تأخّر ,
فالعبد لا يزال في تقدّم أو تأخّر
ولا وقوف في الطريق البتّة
قال تعالى: ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) المدثر: 37.
فائدة:
ترك الشهوات لله أنجى من عذاب الله و أوجب للفوز برحمته
فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به
لا يحصل في قلب فيه غير الله
وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم
فإن الله سبحانه لا يجعل ذخائره
في قلب فيه سواه
وهمّته متعلّقة بغيره
وإنما يودع ذخائره في قلب يرى
الفقر غنى مع الله
والغنى فقرا دون الله
والعز ذلا دونه
والذل عزا معه
والنعيم عذابا دونه
والعذاب نعيما معه
وبالجملة
فلا يرى الحياة إلا به و معه
والموت والألم والهم والغم والحزن إذا لم يكن معه
فهذا له جنتان
جنة في الدنيا معجلة
وجنة يوم القيامة مؤجلة.
أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي و العطاء والمنع.
فافترقوا فرقتين
فرقة قابلت
أمره: بالترك
ونهيه: بالارتكاب
وعطاءه: بالغفلة عن الشكر
ومنعه: بالسخط
وهؤلاء أعداؤه وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة
فإذا مزّق الموت هذا الستر صاروا إلى الحسرة و الألم
وفرقة قالوا
إنما نحن عبيدك
فإن أمرتنا: سارعنا إلى الإجابة ,
وإن نهيتنا: أمسكنا نفوسنا , وكففناها عمّا نهيتنا عنه ,
وإن أعطيتنا: حمدناك و شكرناك
وإن منعتنا: تضرّعنا إليك وذكرناك
فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا ,
فإذا مزّق الموت هذا الستر صاروا إلى النعيم المقيم و قرة الأعين
فإذا تصادمت جيوش الدنيا و الآخرة في قلبك
وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت ؟
فانظر مع من تميل منهما ؟ ومع من تقاتل ؟
إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين ,
فأنت مع أحدهما لا محالة
فالفريق الثاني استغشوا الهوى فخالفوه
واستنصحوا العقل فشاوروه
وفرّغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له
وجوارحهم للعمل بما أمروا به
وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة
واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال
وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها
واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها
واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه
وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها
فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها
أن آنسهم بنفسه
وأقبل بقلوبهم إليه
وجمعها على محبته
وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه
وفرّغ قلوبهم ممّا ملأ قلوب غيرهم
من محبة الدنيا و الهم و الحزن على فوتها والغم من خوف ذهابها
فاستلانوا ما استوعره المترفون
وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون
صحبوا الدنيا بأبدانهم , والملأ الأعلى بأرواحهم.